منذ يناير 2020، بات العالم بأكمله يصارع عدوًا واحدًا، عدوًا هوى بالقطاعات الصحية والاقتصادية والحياة الاجتماعية لمليارات البشر، وأسقط رؤوس الأموال وأسهم البورصة وانتزع حيوات عشرات الآلاف في دول متعددة وأجبر الدول بما فيها تلك الغنية والقوية على إعلان حالة الطوارئ ووضعها في حالة تشبه حالات الحروب. لكن هذه الحرب ليست نزاعًا مسلحا دوليًا كالحربين العالميتين، ولا حربًا أهلية كالتي تدور في سوريا بين القوات الحكومية والمعارضة المسلحة، إنه فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة.
فيروس كوفيد-19 أو ما يعرف بـ"كورونا المستجد"، اُكتِشف بدايًة في مدينة "ووهان" في مقاطعة "هوبي" في الصين في شهر ديسمبر 2019 بعدما شخص مستشفى ووهان المركزي إصابة 7 حالات بفيروس "سارس" الذي ظهر عام 2003 كوباء عالمي، وكان العامل المشترك بين الحالات السبع قدومها جميعًا من سوق ووهان للمأكولات البحرية الأمر الذي دعم الاعتقاد بأن مصدر الفيروس هو ذلك المكان.
لم تمر أيام كثيرة حتى تضاعفت أعداد المصابين بالفيروس في مدينة ووهان، وبدأت الفرق الطبية بإعلان عجزها عن التعامل معه والسيطرة عليه، في ظل تكتم الحكومة الصينية على تفشي الوباء، وإخفاء المعلومات المتعلقة بطبيعته ومدى انتشاره ليس داخل الصين فقط، بل خارجها. إذ لم تطلع السلطات الصينية المعنية منظمة الصحة العالمية عن خطورة الوضع الصحي، ولم تتخذ إجراءات تحذر فيها الناس أو المقاطعات الصينية الأخرى أو حتى الدول المجاورة من جدّية ذلك التهديد. وازدادت الأمور تعقيدًا في بداية يناير إذ شهدت الصين ذروة في حركة المسافرين الذين تنقلوا بين المقاطعات الصينية احتفالاً بالعام القمري الجديد. وبحسب تحليلات شركات الاتصالات الكبرى في الصين والتي تعقبت حركة المسافرين من الهواتف المحمولة، وصل عدد المسافرين حتى منتصف يناير 2020 إلى 7 مليون مسافر تنقلوا بين المقاطعات الصينية في ظل عدم إعلان الحكومة الصينية تقييدًا للسفر أو حجرًا صحيًا على أيّ من المدن أو المقاطعات.
ونتيجة لتكتم الحكومة الصينية وعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة بشكل مبكر، انطلق فيروس كورونا كالنار في الهشيم من الصين إلى 196 دولة ومنطقة حول العالم. وفي 11 مارس الحالي، صنّفت منظمة الصحة العالمية هذا الوباء كجائحة عالمية حصدت عشرات الآلاف من الضحايا والإصابات حتى هذا اليوم.
أدرك العالم بشكل متأخر نسبيًا أن فيروس كورونا أصبح واقعًا يهدد استقرار الدول ويكشف إهمالها في تمكين القطاعات الصحية والاقتصادية في بلادها، فقد شكلت تداعيات عدم التعاطي المبكر مع الفيروس وفرص انتشاره دليلًا إضافيًا على تداعيات عدم احترام مبادئ حقوق الإنسان واستهتار الدول بالاتفاقيات الحقوقية الدولية التي وقعت عليها وبمبادئ حقوق الإنسان وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير.
لنعود إلى الخلف قليلًا، ففي 30 ديسمبر 2019، حذر طبيب العيون الصيني "لي وينليانغ" الذي كان يعمل في مستشفى ووهان المركزي، من فيروس كورونا، إذ أخبر زملائه عبر موقع "ويبو" الإلكتروني الصيني بوجود فيروس جديد معدٍ ينتقل بسرعة كبيرة، وطلب منهم أخذ الحيطة عند التعامل مع المرضى. إلا أنّ "وينليانغ" تفاجأ بحضور قادة من الشرطة أمروه بالتزام الصمت وعدم التحدث بشأن الموضوع.
"نحذرك بشكل رسمي: وإذا تماديت في عنادك، بهذا القدر من الوقاحة، وتابعت هذا المسلك غير القانوني، فسوف تمثُل أمام العدالة - هل هذا مفهوم"؟
لم تكتف السلطات الصينية بإسكات الطبيب، بل أرسلت له مسؤولين من مكتب الأمن العام وطُلب منه التوقيع على الخطاب أعلاه والتعهد بعدم تداول أية معلومات حول الوباء.
"وينلينانغ" والذي توفي في مارس بعد إصابته بكورونا-الفيروس الذي اكتشفه بنفسه- لم يكن الوحيد الذي أسكتت السلطات الصينية صوته في بدايات انتشار الفيروس، إذ حققت السلطات مع 8 أشخاص آخرين تداولوا معلومات حول الفيروس الجديد عبر منصات التواصل الاجتماعي الصينية بذريعة نشر الشائعات والإخلال بالنظام العام للدولة.
أما في إيران فقد تعمدت السلطات إخفاء معلومات انتشار الفيروس وتداعياته الصحية على مواطنيها،
حيث أعلنت السلطات منتصف فبراير عن إصابة إثنين فقط من مواطنيها بفيروس كورونا في محافظة "قم" جنوبي العاصمة طهران، وتبع هذا الإعلان إعلان آخر بوفاة هذين الشخصين، وثم إعلان آخر بعدها بأيام باكتشاف خمس إصابات جديدة، وصولًا إلى نهاية فبراير حيث صرحت وزارة الصحة الإيرانية بأن عدد الحالات المصابة بالفيروس في البلاد 141 حالة. غير أن شهود عيان من داخل المدن والمستشفيات الإيرانية وتصريحات لبرلمانيين شككوا في رواية الحكومة حول أرقام الإصابات والقتلى. ففي الثاني من مارس الحالي نشر مجموعة من الإيرانيين مقاطع مصورة لعشرات الجثث في مستشفى "قم" توفوا بسبب الفيروس، ومقاطع مصورة أخرى لعمليات دفن في ذات المدينة لأكثر من 80 جثة، في الوقت الذي صرحت فيه إيران بأن عدد الوفيات التي تسبب بها الفيروس لم يتجاوز 34 شخصًا. وما يدعم ذلك أيضًا تصريحات لممرضات وأطباء لقناة "فرانس 24" عبر اتصال هاتفي وباستخدام أسماء مستعارة، أنّ السلطات وجهت أوامرها للفرق الطبية باستبدال أسباب وفاة ضحايا فيروس كورونا بأسباب أخرى مثل "التهاب رئوي حاد" أو "السل" أو "السكتة القلبية".
لم يتوقع الصينيون أن يكونوا بمثابة الوحش الذي يفر منه الناس لدى رؤيته ولا مادة إعلامية يتناولها سكان الكرة الأرضية من مشرقها إلى مغربها. ولكن هذا ما فرضه الواقع بعد حدوث أزمة كورونا في العالم، فمنذ انتشار الفيروس، ضجت منصات التواصل الاجتماعي بالنكات ومقاطع السخرية حول الصينين ومطالبات للحكومات لطرد الصينين وإغلاق كل ما يعملون به حتى المطاعم التي تقدم أطعمة صينية. لم يتوقف الأمر على سخرية ونكات على الشبكة العنكبوتية، بل تحول هذا التنمر الإلكتروني إلى ممارسات عنصرية واقعية طالت صينين هوجموا من قبل أفراد في الشوارع وشتموا ونعتوا ب “كورونا" وتوقف الناس عن التعامل معهم وتكررت مثل هذه الحادثة في عدة دول كان أبرزها مصر، لبنان ألمانيا والولايات المتحدة.
لقد دفع العالم أجمع -وما زال- بما فيه الصين وإيران ثمنًا باهظًا جراء التنكر لتطبيق الالتزامات الدولية فيما يخص حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير في مقدمتها، ولإنْ كان تطبيق تلك الالتزامات ضرورة ملحة في كل وقت فإنّ تطبيقها على نحو خاص في أوقات الأزمات وحالات الطوارئ -مثل أزمة كورونا- يمثل أهمية بالغة لا يمكن التغاضي عنها.
كان يمكن لمنح شخص واحد كطبيب العيون في ووهان حقه في التعبير عن رأيه بحرية، أو السماح بمشاركة المعلومات حول الفيروس وإطلاع مواطني الدول على مدى انتشاره، أن يلعب دورًا حاسما في التخفيف من الآثار المريعة لهذا الفيروس المميت. دعونا فقط نتصور لو منحت تلك الحقوق البسيطة كم من الأشخاص كان من الممكن أن يكونوا بين أحبائهم اليوم؟