شهد العالم حالة من الإغلاق إبان الإعلان الرسمي لمنظمة الصحة العالمية فيروس كورونا (كوفيد-19) على أنه جائحة عالمية بعد أن أثار موجة من الذعر في صفوف مئات الملايين حول العالم ليقبلوا على أمور لم يعتادوا عليها مسبقا في حين أن فكرة الحجر الصحي قد تشكل تحدياً في حد ذاتها.

للمرة الأولى يظهر المسؤولين الحكوميين اهتماما واضحا لتحذيرات مسؤولي الصحة أكثر من ملاحقة تجاوزات الأموال العامة كما ينبغي.

هذا هو الوجه العام الذي يظهر لنا في شاشات التلفزة وتحديدا في حالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرغم من أنها تفتقر لسوء الادارة مع الأخذ بعين الاعتبار ابتسامة رؤساء الشركات المدعوة في مؤتمر روز جاردن الصحفي عندما تلقى العديد من المدراء التنفيذيين لكبرى الشركات علاقات عامة مجانية لم تكن في متناول ايديهم من قبل.

هناك جانب مشرق: في حالة انعقاد الانتخابات الأمريكية في تشرين ثاني/نوفمبر المقبل، فإننا سنشهد فشلاً لترامب لتعود الحياة الى طبيعتها بشكل أسرع مما نتوقعه في الوقت الراهن.

على أي حال، يجب علينا أن نتوقف عن التفكير في المستقبل فالحياة قد تنقلب رأساً على عقب كما حدث في الآونة الأخيرة خاصةً وأنه على مر التاريخ لم تصمد أعتى الرسوم البيانية المحوسبة المعقدة في وجه تحولات القوى المجتمعية التي قد تحدث كطفرة صادمة.

تذكرنا أزمة كورونا بمخاطر الشك الجوهري خاصة أن حدوث مثل تلك الطفرة القاتلة في الفيروس يثبت أن قدرة الانسان على التنبؤ لا تتفوق عن مثيلتها لدى الحيوانات.

فالفيلة والأسود كانت تلهو في غابات السافانا دون أن تتوقع الموت المحتم الذي كان ينتظرها عند اندلاع الحرائق وخروجها عن السيطرة.

إلى جانب هذا الغموض فإن الاستعداد للكارثة وتقبلها كحالة طارئة هو المبدأ الوقائي للوصية الحادية عشر المنتظرة من الحضارة البشرية.

يرشدنا المبدأ الوقائي لتجنب الوقوع في الخطر القاتل الذي لا رجعة فيه .إذا فالرسالة كالتالي: لا تنتظر وقوع المصيبة ولا تكن في خطوط التماس المواجهة منها.

من الجوانب التي يجب أخذها بعين الاعتبار فيما يتعلق بهذا الفيروس أنه يثير الجانب الارشادي للإنسان، خاصة أننا نشعر بالمشكلة اذا كانت آنية وذات آثار قاتلة حينها يتم تفريغ ذلك الذعر على صورة ردود أفعال مبالغ فيها لتنتشر الفوضى وتحدث الأزمة، إلا أن عثرات الأمس يمحوها الوعي الجماعي العميق.

ويعتبر وباء الانفلونزا الإسبانية عامي 1919-1918 مثالاً حاضراً لم يسبق طرحه من قبل. إننا شعوب ننسى المصائب القديمة بمجرد حدوث مصائب جديدة كما هو الحال بالإنفلونزا الاسبانية التي اختفى ذكرها مع توالي الأحداث العالمية.

يضاف إلى ذلك التغيرات المناخية التي يصعب التعامل معها في ظل هذه الجائحة فلا أحد يستطيع أن يتجاهل ما يحدث، فالبيئة مؤخرا وخطر التكنولوجيا الذي قد يتسبب في حدوث انهيار كبير وحينها سيكون من الصعب ايقاف ذلك.

يشار إلى أن الأنظمة البيئية المجتمعية لا تزال مستمرة في انتاج أحدث الاجهزة الرقمية والذكاء الاصطناعي ضاربة بعرض الحائط التحذيرات تلك.

حتى في البرازيل وأستراليا حيث تتصاعد الكارثة البيئية، تقوم الدولتان بالتعامل مع الكارثة على أنها حدث لا يتكرر والذي لا يستدعي بالمقام الأول التدخل في سيادتهما أو في أرباح إزالة الغابات وتربية المواشي وثانيا توسيع انتاج الفحم والصادرات.

إن المدى القصير للحياة البسيطة التي يعيشها الإنسان العادي و كيفية الحكم على القادة السياسيين وأصحاب الشركات تجعل الربط بين مفاهيم الديمقراطية واستيعاب العالمية أمر صعب، خاصةً إذا كان تأثيرها المدمر يمكن تخيله كما يحدث للآخرين أو على المستوى البعيد.

فعندما نقرأ تفاصيل حياة سكان قطاع غزة أو ما يعيشه اللاجئون في المخيمات والاعتداءات التي يتعرضون لها على المناطق الحدودية، حينها نشعر بالحزن إزاء تلك الاخبار ونوقع العديد من العرائض ونقدم التبرعات، وفي الوقت ذاته نادرا ما يكون تعاطفنا مشابهاً إذا ما أصيب أحد أفراد اسرتنا بالفايروس ليؤخذ الى المستشفى تحتوي على عدد كاف من الآسرة التي قد تصبح في غضون أسابيع أملاً لكبار سن مصابين بالفيروس.

جاءت هذه الجائحة لتزيح الستار عن ديمقراطية الحكم المزعومة حيث كشفت إسرائيل عن توضيح بخصوص الملفات السرية حول مراقبة هواتف المستخدمين بذريعة مواجهة الإرهاب في حين أنها تستخدم لتحديد وحجز أشخاص من المتوقع إصابتهم بالفيروس أو كانوا على تواصل بأشخاص حاملين للمرض.

عندما تخيل أورويل وجود الأخ الأكبر المعذب، فُهم ذلك على أنه اتهام لأنظمة الحكم بالاستبداد وتحديداً الاتحاد السوفيتي، أو على الأغلب تحذير لعالم في طور التكوين، دستوبيا "أدب المدينة الفاسدة" التي لا نأمل أن تصبح واقعاً، هل سيحقق لنا التقدميون حياة أكثر أماناً إذا ما أصبح جميعنا موضع اشتباه واصبحت حياة كل منا مستباحة أمام ثلة من البيروقراطيين غير خاضعين للمساءلة؟.

إن الاستثمارات المفرطة في السلاح لا تجلب إلا الفوضى وانعدام الأمن، ولتكن أمريكا المثال الأنسب لذلك على مر التاريخ. ففي الوقت الذي تنامت فيه الترسانة العسكرية الخاصة بنا أصبحنا مكبلين بقيود أكثر مثل الرقابة وكاميرات المراقبة الخفية بدلاً من الاهتمام بالتحسينات الاجتماعية مثل التعليم والصحة والثقافة والمتنزهات والمحميات الطبيعية.

تم إنفاق الأموال على جمع البيانات الفوقية/الوصفية والإمكانية العسكرية لتحكم العالم لتكون قادرة على مواجهة أية كارثة على وجه الأرض براً وبحراً وجواً أو حتى في الفضاء.

ومع أن الصين لديها عيوب إلا أنها ضربت مثالاً يُحتذى به أمام العالم في امتلاك القوة والتأثير والاحترام من خلال الاندماج بين الدولة وسوق العمل بالاستفادة من القوة الناعمة اينما وجدت.

في المقابل أظهرت أمريكا العكس، فاستعرضت قوة الجغرافيا السياسية بإطلاق التهديدات والديمقراطية القسرية وسياسية فرض العقوبات والتدخلات السياسية، لتكون النتيجة إحباطات متكررة دون التعلم من الدروس السابقة لأن المنظومة بأكملها عسكرية مسببةً الاختلال في المنظومة الأخلاقية والسياسية، وليتم إنفاق أموالا طائلة على تعديلات تكتيكية لا تُحسن فهم أخطاء الماضي، فيصبح فشل الأمس حليفاً للغد.

وتأثر النسيج الديمقراطي للعديد من الدول قبل أن تزيد جائحة كورونا من الطين بلة، حيث جلبت الحرب الباردة في نهايتها توقعاً بأن الفوائد السياسية والمادية لأنظمة الحكم الديمقراطية ستكون في أوجها. إلى حد ما كان ذلك حقا في عام1990 عندما ذكر الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون مصطلح "الاتساع" الذي يعكس ظهور ديمقراطيين رأسماليين الأمر الذي من شأنه أن يحقق ازدهار اقتصادي وسلام عالمي في ظل تجارة واستثمار متينين.

تلا ذلك هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2011 مروراً بالثورات المضادة لثورات الربيع العربي التي أدت إلى حالة من عدم الاستقرار والصراع المدني، مثل أزمة المهاجريين وطالبي اللجوء التي أثارت ردود فعل القومية المتطرفة على الليبرالية الجديدة ونهايةً مع فيروس كوفيد-19.

تبرز ظاهرة محيرة توجد في المجتمعات التي تمارس حق الانتخاب بحرية وتكراره مرة ثانية وهي وجود ديماغوجيين استبداديين يسلبون الحريات الاساسية دون تبرير افعالهم ونواياهم.

فزعيم رجعي كالرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي يحظى بشعبية تصل إلى 80% بالرغم من كونه مسؤولا عن 20 ألف عملية إعدام غير قانونية إضافة إلى العديد من الانتهاكات الصارخة لمعايير حقوق الإنسان وتجاهل القيود الدستورية على ممارسة سلطة الدولة.

بموازاة ذلك يحظى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي على شعبية كبيرة بالرغم تعديه الوحشي على الحكم الذاتي لكشمير إلى جانب إثارة المواقف المعادية للأقلية المسلمة الكبيرة.

من المتوقع أنه لا توجد ديمقراطيات في زمن الحروب والأزمات التي تعطي للحكومات الفرصة للقيام بما تشاء تحت ذريعة الأمن القومي والآن بحجة الصحة العامة.

خلال الحرب العالمية الثانية احتجزت الولايات المتحدة أقلية يابانية في الساحل الغربي دون احترام مبادئ القانون، ولا تزال غالبية المحاكم العليا في الولايات المتحدة متمسكة بهذا التعهد القمعي باعتباره احتياط أمني معقول يؤخذ به زمن الحرب تخوفاً من خيانة المدنيين اليابانيين. لقد كان هذا القرار مثيراً للجدل وكانت هناك آراء مخالفة داخل المحكمة العليا.

بعد أن وضعت الحرب أوزارها قُدمت مؤخرا اعتذارات رسمية بعد مرور 25 عاما على تلك الانتهاكات. وتسعى الإدارة الأمريكية اليوم إلى اعتماد سياسة الطرد، من خلال إقصاء الفقراء وغير المرغوب بهم من خلال بناء جدران أو فرض قيود ضد المسلمين. لقد كانت التجربة الدولية الاخيرة واحدة من الاشكال الراديكالية الغير متوقعة لنزع الديمقراطية وتكاثر النظريات القومية المتطرفة وتآكل احترام الامم المتحدة والقانون الدولي والتعاون العالمي عندما كانت الحاجة لتلك المفاهيم أكثر من أي وقت مضى اضافة الى تقويض الصحافة المستقلة والحرية الاكاديمية ومصادرة حرية التعبير عن الافكار الغير معلنة.

التأثير التراكمي لهذه الميول السياسية لإضعاف الثقة، وحتى وضع إمكانية الحقيقة موضع تساؤل، مما يجعل الحكم في سلسلة من التلفيقات الانتهازية.

عندما يمكن رفض الآراء المدعومة علمياً والأدلة غير المرحب بها على أنها "خدع" و "أخبار وهمية"، لم نعد نعرف ما نعتقد، والأهم من ذلك كله التشكيك في ما تخبرنا به الحكومة وقادتها.

تعتمد الديمقراطيات في شرعيتها وفعاليتها على الثقة وكذلك على جو من الحياة الطبيعية، وعندما لا يكون أي منها موجود، يحدث ارتباك وفوضى، ويخرج الديماغوجيون مع دعاية واثقة من نفسها وغالبًا ما تكون خبيثة يتم ابتلاعها بالكامل من قبل قطاعات كبيرة من السكان، مهما  كان منفصلاً عن الواقع ذلك الوعد بالإنقاذ.

أحد النسخ للرسالة هو: جعل أمريكا "عظيمة" مرة أخرى يتم تحقيقها على حساب إحداث انهيار كوكبي. هذا هو المنطق المظلم لعصرنا الذي يجب أن يواجهه جدلية للمقاومة والتحول.

ومن المثير للاهتمام أن فايروس كورونا قد استعاد مؤقتًا مكانة ونفوذ الخبير، على الأقل في حالة الطوارئ الحالية. هل يمكنك تخيل مؤتمر صحفي لترامب في المستقبل حول تغير المناخ يضم رئيس نادي سييرا، وصندوق الدفاع البيئي، وقيام غريتا ثونبرغ بمشاركة المنصة مع الخبراء.

مهما كان ذلك سخيفا، يبدو إلى حد ما كيف يسعى الرئيس الأمريكي الآن إلى طمأنة الجمهور أنه على الرغم من بعض العثرات المبكرة، يمكن للمواطنين الآن أن يثقوا في أن كل ما يوصي به أفضل الخبراء يتم القيام به لتقليل الضرر الناتج عن الفيروس العالمي.

لم يعد ترامب يظهر أمام كاميرات التلفزيون وجمع الصحفيين كزعيم بارز في معرفة كل شيء. وبدلاً من ذلك، يحيط به خبراء الصحة ومديرو الشركات وعضو مجلس الوزراء الذين يرجعون إليه بانتظام كلما أثار سؤال أحد الصحفيين مشكلة فنية.

في هذا المنعطف المضحك، أصبح المرشد الأعلى مبتدئًا، ونأمل أن يتلقى قريبًا زلة وردية من النوع الذي أصدره بسعادة أثناء ظهوره الأسبوعي على برنامج "ذا أبرينتايس".

بالطبع، لدى الخبراء حدودهم أيضًا، والاعتماد على سلطة القابل للقياس ليس مسارًا إنسانيًا للمستقبل. تعتبر الحساسية الأخلاقية، وخاصة التعاطف، أكثر أهمية من اتباع الأدلة كما يفسرها العديد من الخبراء، الذين غالبًا ما يخفون أجنداتهم السياسية المشكوك فيها أو طموحاتهم المهنية وراء موجة من الأرقام والرسوم البيانية.

لذا في مكان ما بين استبعاد الواقع كأخبار مزيفة وعبادة خبير الأناقة كمرشدنا الأعلى، نحتاج إلى إيجاد الشجاعة والحكمة والتواضع للتوصل إلى قرارات صعبة تدفع البشرية إلى الأمام.

 ومع ذلك، ما زلنا بعيدين عن توليد الخيارات السياسية التي تشمل مثل هذه الأصوات البناءة. حتى الآن، ما يعارض الاستبداد الراسخ يبدو تحسنًا يستحق الدعم، ولكنه لا يدعي حتى أنه يغير النظام.

دون المبالغة في ذلك، يتم تصوير الدروس الحقيقية التي يمكن تعلمها بشكل جيد في مقالة رائعة كتبها بروس فرانكلين، وهو صديق ومحل اعجاب وواحد من أكثر المترجمين إدراكًا وإنسانيًا في المشهد السياسي، والذي أسرته فضائله تلقائيًا إلى الهوامش الخارجية للوعي العام.

تشدد مقالته على فكرة استمرار الاعتماد على النظام العالمي والمعاملات التي تتمحور حول الدولة الجغرافيا السياسية هي اختيار مصير يوم القيامة ليس فقط للبلد، ولكن للبشرية.

إذا لم نتمكن من التعلم من تجربة فيروس كورونا لاعتمادنا على التعاون العالمي، ونهج يكسب فيه الجميع لحل المشكلات العالمية، فإن البشرية بعيدة جدًا في مسيرة الموت البيولوجي الإيكولوجي.

كما يوضح فرانكلين، في الاستجابة الإيجابية للوباء، نساعد أنفسنا من خلال مساعدة الآخرين، ونؤذي أنفسنا عندما نرفض القيام بذلك.

إن النقطة الجوهرية التي يحملها هي أن تغير المناخ، والفقر المدقع، والتنوع البيولوجي، والهجرة العالمية، ونزع السلاح النووي، ونزع السلاح هي نفسها بشكل أساسي: تحديات النطاق العالمي التي لن يتم حلها إلا من خلال استجابات يكسب فيها الجميع على نحو مماثل.