لم يكن يتوقع العالم أن تكشف جائحة فيروس كورونا التي انطلقت في منتصف شهر ديسمبر من العام 2019 عن هذا الكم الصادم من الممارسات والتصريحات العنصرية للعديد من دول وقادة العالم الذين كانوا ينادون -وإلى وقت قريب -بالمساواة ونبذ الخلاف والقضاء على التمييز العنصري.
تلك الممارسات العنصرية التي لم تقتصر على قيادات ورؤساء الدول والحكومات بل إن شرارتها انطلقت من الأفراد أنفسهم ، عندما بدأ العديد من سكان دول العالم المطالبة بطرد الصينين من بلدانهم على اعتبار أن فايروس كورونا انطلق من مدينة وهان الصينية وأنهم يتحملون مسئولية هذا الفيروس على الرغم من أن أولئك الصينين لم يغادروا البلاد التي كانوا فيها وأنهم تعرضوا لخطر الإصابة مثل باقي المواطنين.
لم يقتصر السلوك العنصري على هذه التصريحات، بل تطور الأمر إلى الاعتداء على العديد من -الرعايا الصينين والأسيويين بشكل عام- في مختلف الدول الأوروبية وحتى العربية، سواء باستخدام الألفاظ المهينة أو عدم التعامل معهم في الأماكن العامة، حتى وصل الأمر إلى عدم استقبالهم في المحلات التجارية وأماكن التسوق الرئيسية.
تلك الممارسات بدأت بالإتساع والانتشار لتطال العديد من الأفراد من مختلف الجنسيات والأعراق حيث فجرت حالة الهلع والخوف من انتشار فيروس كورونا حالة من التمييز العنصري على مستويات مختلفة ضد الأجانب والعمال واللاجئين في مختلف البلدان، وبدأت المطالبات بترحيل اللاجئين الذين فروا من ماطق الصراع والحروب والظروف الإقتصادية الصعبة، ليجدوا أنفسهم أمام تحدٍ آخر وهو الحصول على حياة آمنة وسط مجتمعات تنبذهم لا لشيء إلا لمجرد أنهم أجانب أو طالبي لجوء.
وبدلا من أن تكون تلك التصريحات والممارسات العنصرية دافعًا لبعض الحكومات لوقفها أو العمل على نشر الوعي بخطورتها وجدنا أن قيادات بعض الدول والحكومات بدأت بتوجيه التصريحات العنصرية ضد أولئك الأفراد، هذه التصريحات وغيرها كانت قد صدرت من كبار قادة غربيين من أمثال الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي وصف فيها فيروس كوفيد-19بأنه "فيروس صيني"، أو إصرار وزير خارجيته مايك بومبيو على الإشارة إلى فيروس كورونا المستجد في البيان الصحفي الختامي لاجتماع مجموعة الدول السبع باسم "فيروس ووهان"، يدلل على أن العقلية الغربية، وعلى الرغم من كل التغيرات التي شهدها العالم منذ نهاية فترة الاستعمار، لا يزال مسكوناً بفكرة استعلاء الجنس الأبيض.
وعلى نفس السياق سارت تصريحات بعض الفنانين والسياسين في بعض الدول العربية حيث انتشر قبل عدة أيام تصريح مثير للجدل لإحدى الفنانات الكويتيات تطالب فيه حكومة بلادها "برمي العمال في الصحراء خشية من انتشار فيروس كورونا وأنهم عبء على دولتها" ، لتنطلق حملة من نشطاء وسائل التواصل الإجتماعي تهاجهم فيها تصريحاتها، لتعاود الإعتذار عن تصريحاتها وأنه تم فهمها خارج إطارها. وفي تصريح لا يقل خطورة عن سابقه طالبت فنانة سعودية بإجراء تجارب العلاج على السجناء بدلًا من استخدامها على "الفئران والقرود" على حد تعبيرها حيث صرحت في تغريدة نشرتها على موقع تويتر "لو كان الأمر بيدي، كان كل اللي يتم القبض عليهم خاصةً في قضايا تمس الأمن، ما أسجنهم بس وأخسر عليهم أكل وشرب وتأهيل، كان خليتهم حقل تجارب للأدوية الجديدة".
وأضافت "حتى لو ما كانت النتائج مضمونة، منها عقاب لهم ومنها تستفيد منهم البلد.. هم أولى بالتجارب من الفيران والقرود اللي ما أذتنا بشيء".
أما في جمهورية مصر العربية فقد شهدت منذ يومين 11/أبريل رفض احدى القرى المصرية دفن طبيبة توفت بفيروس كورونا والذي انتقل لها أثناء مداواتها لمرضى سكان القرية بنفس الفيروس ، حيث تجمع أهالي القرية أمام المقبرة ومنعوا الطواقم الطبية من دفنها في مشهد يعكس انعدام أبسط معاني وقيم الإنسانية لدى أولئك الأفراد، وبرغم المحاولات المتكررة للطواقم الطبية دفن تلك الطبيبة إلا أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل إلا أن تم دفنها بإحدى القرى المجاورة بعد انتشار خبر منع دفن الطبيبة على مواقع التواصل الإجتماعي.
لكن يبقى تصريحات اثنين من كبار الباحثين الفرنسيين في مجال الطب أثناء بث تلفزيوني الأشد عنصرية إلى هذه اللحظة حيث اقترح الطبيبان ضرورة أن تصبح إفريقيا مختبراً ضخماً للقاح فيروس كورونا، معللين ذلك بأن القارة الإفريقية تفتقر إلى الموارد الضرورية للتصدي للفيروس. تلك التصريحات التي جاءت على لسان اثنين من أهم المتخصصين بهذا المجال في أوروبا. فالطبيب ميرا يشغل رئيس قسم العناية المركزة بمستشفى كوشين في باريس، بينما يشغل الطبيب لوكت موقع مدير الأبحاث في المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية والمعروف اختصاراً باسم INSERM والذي يصنف على أنه ثاني أفضل معهد في البحوث الطبية على مستوى العالم.
حيث قال ميرا في تصريحه: "إذا كان بإمكاني أن أكون استفزازياً، ألا يجب علينا إجراء هذه الدراسة في إفريقيا حيث لا توجد أقنعة ولا علاج ولا رعاية مكثفة؟ مثلما فعلنا في بعض الدراسات حول الإيدز. لقد جربنا [أشياء مماثلة]بشأن البغايا لأنهن معرضات بشدة للإصابة ولا يحمين أنفسهن".
وعلى الفور وافق لوكت على مقترح زميلة بالقول: "أنت على حق. نحن في الحقيقة نفكر في دراسة موازية في إفريقيا لاستخدامها بالنهج نفسه مع الدواء BCG " وهو بذلك يشير إلى عمليات التطعيم ضد مرض السل الذي يزعم معهد INSERM أنه يحمي الأطفال من العدوى خصوصاً تلك المتعلقة بالجهاز التنفسي.
أثارت هذه التصريحات غضب العديد من الأوساط حول العالم على رأسهم منظمة الصحة العالمية، التي انتقد رئيسها تيدروس أدهانوم غيبريسوس هذه المواقف ووصف أصحابها بـ"العنصريين". وأكد غيبريسوس في مؤتمر صحفي افتراضي أنه "لا يمكن لإفريقيا -ولن تكون- ساحة لاختبار اللقاح"، مضيفاً أن الاقتراح كان تعبيراً صارخاً عن "العقلية الاستعمارية". وتابع حديثه: "لقد كان عاراً وأمراً مروعاً أن نسمع خلال القرن الحادي والعشرين من علماء هذا النوع من التصريحات".
ما يمكن فهمه من تلك الممارسات العنصرية التي اتبعها -ولا يزال-العديد من الأفراد والقادة أنها تعكس الأفكار الاستعمارية التي كانت سائدة في العصور الوسطى لا سيما الدول الأوروبية "الاستعمارية" التي كانت تنتهج سياسة التمييز والفصل العنصري أثناء حكمها تلك البلدان مع تبنيها فكرة سمو أصحاب البشرة البيضاء على ما دونهم من الأشخاص وما صاحب تلك الحقبة من انتهاكات شديدة وممارسات لا إنسانية تم وئدها مع بداية العصر الحديث وتأسيس هيئة الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية المختصة بهذا الشأن وأهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهديين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، واتفاقية القضاء على كافة أشكال التميز العنصري وغيرها.
كما أن الدول العربية ليست بعيدة عن تلك الممارسات والتي يُفهم منها أنها إنعكاس لسياسات الحكومات الديكتاتورية التي دأبت على التفريق العنصري بين أفراد الدولة على عدة اعتبارات سواء كانت سياسية أو عرقية أو دينية وغيرها . تلك الممارسات وغيرها كانت بيئة خصبة لتصاعد وتيرة الخطاب والممارسات العنصرية في تلك البلدان والتي سيؤدي الإستمرار بها إلى نتائج وخيمة تنعكس على المجتمعات بأكملها.
صحيح أن هذا الفيروس عكس العديد من الصور المشرفة للطواقم الطبية والأفراد في مواجهة هذا الفيروس سواء على صعيد الالتزام بالتعليمات الحكومية أو مساعدة المرضى بكافة الطرق الممكنة وإنشاء صناديق الدعم الأهلية والمحلية لمساعدة الحكومات في مواجهة جائحة كورونا إلأ أن هذه الأزمة أيضًا كشف النقاب على غياب خطير لأبسط القيم الإنسانية وهي المساواة بين البشر دون النظر إلى اعتبارات الجنس والدين واللون والعرق.
فهل سيشهد العالم ولادة حقبة جديدة من الاتفاقيات الدولية بعد فشل الحالية في تقديم الردع الكافي للممارسات العنصرية؟ وهل ستتمكن الإنسانية من حماية قيمها الأساسية بعد كل هذه الأحداث؟