فجر انفجار بيروت موجة من التساؤلات التي -على كبر حجم الكارثة- وجدت حيزًا إلى جانب الإدانات التي شغلت هي الأخرى السواد الأعظم من المتابعين؛ حول من المسؤول عن وقوع الكارثة، ولماذا لم تُطرح مسبقًا مجموعة العوامل المسببة لها قبل أن تقع بالفعل، خاصة بعد توارد تقارير ببدء اشتعال فتيلها منذ أكثر من ستة أعوام.

الانفجاران اللذان دمرا مرفأ بيروت ومحيطه بشكلٍ كلي، وأحدثا خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات نال كل بيت في بيروت تقريبًا نصيبًا منها، وقع يوم الثلاثاء، في الرابع من أغسطس 2020. وبحسب تقارير، فإن الأمر برمته بدأ في شهر أكتوبر من العام 2013، حين أبحرت سفينة "إم في روسوس" (MV Rhosus) من جورجيا إلى موزمبيق، وعلى متنها كميات كبيرة من مادة كيميائية متفجرة يُطلق عليها اسم "نترات الأمونيوم"، وتستخدم عادةً لأغراض إنتاج الأسمدة والزراعة.

السفينة التي وُصفت بالمتداعية والقديمة حينها انحرفت عن مسارها وتوجهت إلى العاصمة اللبنانية بيروت، لتُحتجز هناك باعتبارها "غير صالحة للإبحار" بحسب تصريح اتحاد البحارة في روسيا لشبكة (CNN)، قبل اندلاع ما أطلق عليه "معركة قانونية" بين السلطات اللبنانية ومالك السفينة الروسي، انتهت بتخلي الأخير عنها ومغادرة الطاقم، لتبقى السفينة بحمولتها في ميناء بيروت بأمر قضائي في أغسطس من عام 2014.

ووفقًا لتقارير، فإنه جرى تفريغ السفينة المحملة بنحو 2,750 طنًا من نترات الأمونيوم خلال عام 2014 في أحد مستودعات الميناء، دون اتخاذ إجراءات السلامة اللازمة. دفع ذلك الأمر مسؤولي الجمارك في الميناء، بحسب وثائق تداولتها وسائل إعلام، لتحذير المسؤولين الحكوميين والقضائيين من خطورة الإبقاء على تلك المواد في الميناء، وطلبوا نقلها أكثر من مرة، مناشدين الوكالة البحرية بإعادة تصديرها أو بيعها لشركة المتفجرات اللبنانية.

وبإجراء تقديرٍ بسيط للمدة الزمنية ما بين تفريغ محتوى السفينة وتاريخ الانفجار، فإنه، وإذا ما اعتبرنا أنه تم تفريغ السفينة في أغسطس عام 2014، فإن مادةً متفجرةً شديدة الخطورة بقيت في مستودعٍ غير مجهزٍ في إحدى أكثر مناطق بيروت حيوية لمدة وصلت إلى 71 شهرًا، أي نحو 2,130 يومًا، أو ما يعادل 1,544 يوم عملٍ كامل، حضر خلالهم المسؤولون القضائيون الذين قرروا الإبقاء على حمولة السفينة في الميناء إلى أماكن عملهم صباحًا، ثم غادروا مساءً دون الالتفات إلى تبعات القرار، أو متابعة الطلبات المتكررة بنقل الحمولة من المستودع. 1,544 يوم عملٍ لم يؤد فيها المسؤولون عملهم كما ينبغي.

الانتهاك الأول قبل الكارثة: بذل العناية الواجبة

رغم عدم استقرار أعداد الضحايا من القتلى والمصابين والمفقودين، والتوقعات بارتفاع الحصيلة يوميًا مع استمرار طواقم الإنقاذ بانتشال جثث الضحايا وإنقاذ الناجين، إلا أن الأمر لا يحتاج انتظار الأرقام الرسمية والنهائية لمعرفة أن عددًا كبيرًا من الضحايا هم من العاملين في المرفأ. فمئات العاملين ترددوا يوميًا للميناء وعملوا لساعات بجانب قنبلة موقوتة علمت السلطات -بمن في ذلك المسؤولون القضائيون وإدارة المرفأ- بوجودها.

مئات العاملين؛ من عمال نظافة وصيانة ونقل وإداريين وغيرهم، جميعهم حضروا يوميًا إلى العمل دون التمتع بحقهم في السلامة الشخصية والوقاية من المخاطر في مكان العمل، ولم يتم حتى إخطارهم بحيازة المكان على مواد خطرة يمكن أن تودي بحياتهم.

وبحسب وثائق تداولتها وسائل إعلام لبنانية، فإن الجمارك اللبنانية حذرت من الإبقاء على كمياتٍ كبيرةٍ من نترات الأمونيوم في ميناء بيروت، ودعت السلطة القضائية خلال عامي 2014 – 2017 لمطالبة المؤسسات البحرية المعنية بإعادة تصدير أو الموافقة على بيع نترات الأمونيوم، دونما استجابة.

علاوةً على ذلك، فإن مصدرًا مقربًا من موظفٍ في الميناء قال لوكالة "رويترز" إن فريقًا عاين نترات الأمونيوم قبل نحو ستة أشهر من وقوع الانفجار، وحذر من أنه في حال لم يتم نقلها، فإنها "ستفجر بيروت كلها"

وبالإضافة إلى حق نحو مليوني ساكنٍ في العاصمة بيروت في السلامة الشخصية، فمن المفترض أن يتمتع العاملون في الميناء بحقٍ خاصٍ في الحماية من الآثار الضارة بحقوق الإنسان في مكان عملهم.

يتحمل هذه المسؤولية عن حمايتهم بشكلٍ مباشر نحو 50 شركة نقل وتخليص خاصة تعمل في مرفأ بيروت وتدير مئات العاملين هناك. ففي الوقت الذي كان يقع فيه على عاتقها التأكد الدوري بالتنسيق مع الجهات الرسمية من عدم وجود مواد أو ظروف قد تعرض سلامة وصحة عامليها للخطر، استمرت عشرات الشركات العاملة في المرفأ بتشغيل العمال دون إيلاء اهتمام لسلامتهم الشخصية، في ظل علم بعض إداراتها بوجود مادة نترات الأمونيوم بكميات ضخمة في مكان عمل عامليها.

في ذلك، أدارت جميع الشركات العاملة في المرفأ ظهرها لكافة المبادئ التوجيهية بشأن سلامة العاملين، بما في ذلك المبدأ (13) من مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، والذي ينص على أن المسؤولية عن احترام حقوق الإنسان تتطلب أن تتجنب المؤسسات التجارية "التسبب في الآثار الضارة بحقوق الإنسان أو المساهمة فيها من خلال الأنشطة التي تضطلع بها، وأن تعالج تلك الآثار عند وقوعها"، والمبدأ (3-10-1) من المبادئ التوجيهية لمنظمة العمل الدولية بشأن تنظيم إدارة السلامة والصحة المهنيتين الذي ينص على أنه "ينبغي تحديد وتقييم الأخطار والمخاطر المحيطة بسلامة وصحة العمال على أساسٍ متواصل، وينبغي تطبيق الوقاية والحماية" من خلال إزالة المخاطر والتحكم بها والتقليل منها.

 

الانتهاك الثاني قبل الكارثة: الحق في الحصول على المعلومة

في الوضع الطبيعي، فإن ميناءً تجاريًا يعد "شريان حياة" للدولة، ويستقبل نحو ثلاثة آلاف سفينة سنويًا، بما يمثل 70% من البضائع التي تدخل إليها، عادةً ما يمر عبره أنواع مختلفة من البضائع التي من الممكن أن يحتوي جزء منها على مواد قد تصنف خطرةً في ظروفٍ محددة.

هذا -بحد ذاته- لا يعد بالضرورة مادةً بحاجة للتداول أو المشاركة مع الجمهور، باعتبار أن ذلك لا يُفترض أن يشكل عامل خطرٍ على المحيط في الوضع العادي.

لكن ما يعد غير طبيعي هو تحول الميناء الذي تحيط به مناطق حيوية سكنية ومخصصة للأعمال، إلى مستودعٍ لتخزين أطنانٍ من المواد الخطرة شديدة الانفجار دون اتخاذ إجراءات السلامة، ولمدةٍ زمنيةٍ غير محددة الأجل، دون إعلام السكان المحيطين بوجود تلك المواد أو بمدى خطورتها.

لذلك، فإنه وبطبيعة الحال، كان الإبقاء على آلاف الأطنان من مادة نترات الأمونيوم المتفجرة في أحد مستودعات ميناء بيروت الحيوي لمدة ستة أعوام يتطلب بالطبع إعلام المواطنين والعاملين في الميناء وسكان المناطق المجاورة. غير أنه -ولمدة ستة أعوام- سُلب الفرد في بيروت حقه في الحصول على معلومات عن مواد خطرة أودت بحياته أو حياة أحد أفراد عائلته، أو كبدته خسائر مادية ومعنوية فادحة.

يعني ذلك بشكلٍ أساسي، أن ثاني مراحل الكارثة التي وقعت تمثلت في مساس السلطات المعنية بحق الفرد في الحصول على المعلومة، والذي يشمل "حق الأفراد في التماس المعلومات التي تهم الجمهور والحصول عليها، والمعلومات التي تخصهم والتي قد تؤثر على حقوقهم الفردية."

ويشكل الحق في الحصول على المعلومة في تلك الظروف شرطًا مسبقًا لإعمال العديد من الحقوق المدنية والسياسية. على سبيل المثال، تعد الفجوة في توفير المعلومات المتعلقة بالمواد الخطرة "عائقًا أساسيًا في إعمال الحق في مشاركة الأفراد والمجتمعات مشاركة حرة ونشطة ومجدية في تحديد المخاطر التي هم على استعدادٍ لقبولها"، بحسب تقرير المقرر الخاص المعني بالآثار المترتبة في مجال حقوق الإنسان على إدارة المواد والنفايات الخطرة والتخلص منها بطريقة سليمة بيئيًا.

إلى جانب ذلك، فإن المبدأ (10) من إعلان ريو لعام 1992، والمتعلق بالبيئة والتنمية، يشير إلى أهمية توفير المعلومات عن المواد والأنشطة الخطرة، حيث ينص على أنه "توفر لكل فرد فرصة مناسبة، على الصعيد الوطني، للوصول إلى ما في حوزة السلطات العامة من معلومات متعلقة بالبيئة، بما في ذلك المعلومات المتعلقة بالمواد والأنشطة الخطرة في المجتمع، كما تتاح لكل فرد فرصة المشاركة في عملية القرار"، وأكد المبدأ على "تشجيع توعية الجمهور ومشاركته عن طريق إتاحة المعلومات على نطاق واسع" وتكفل الدول بفرص الوصول إلى "الإجراءات القضائية والإدارية، بما في ذلك التعويض وسبل الانتصاف"

 

إرسال طواقم الدفاع المدني إلى الموت

بمجرد اندلاع الحريق في أحد مستودعات المرفأ، تم استدعاء طواقم الدفاع المدني باتصالٍ من الشرطة التي أكدت أقوال شهود عيان بتصاعد أعمدة دخان من المكان.

كإجراء روتيني، ولحماية طواقم الدفاع المدني وتحديد الطريقة المثلى للتعامل مع الحريق، من المفترض عادةً معرفة سبب اندلاعه والظروف المحيطة به. بمعنىً آخر، من الواجب تحديد ما إذا كان من المحتمل حدوث انفجار نتيجة وجود خزانات وقود أو غازات قابلة للاشتعال أو مواد متفجرة، خاصة في مكان يعد مخزنًا لبضائع مختلفة، يمكن أن يحتوي بعضها على مواد شديدة الاشتعال.

في حادثة انفجار المرفأ، لم يكن هناك مجال للتأكد من طبيعة الحريق، خاصة بعد تأكيد أمن الدولة لإدارة الدفاع المدني أن سبب الحريق كان "ألعابًا نارية".

يُذكر أن أمن الدولة ذاته فتح تحقيقًا عام 2019 في وجود كميات كبيرة من نترات الأمونيوم في أحد مستودعات المرفأ، وأحال نتائجه إلى مكتب رئيس الوزراء ومخابرات الجيش والجمارك آنذاك.

استغرق الأمر دقائق معدودة قبل أن تُفقد أجساد عشرة أفراد من الدفاع المدني إلى جانب عدد من أفراد أمن الدولة والأمن العام الذين وقفوا بمواجهة الغرفة رقم (12) التي احتوت على آلاف الأطنان من نترات الأمونيوم.

ربما ما كان يجب للانفجار أن يحدث في المقام الأول، لكنه وقد حدث بالفعل، وفي ظل علمٍ مسبقٍ لدى الجهات القضائية وأمن الدولة وإدارة المرفأ وبعض الشركات العاملة فيه بما تحتويه مستودعات المرفأ، كان يُمكن بذل العناية الواجبة بإخلاء المكان بالكامل من العاملين في الميناء بمجرد اندلاع الحريق الأول، وعدم إرسال طواقم الدفاع المدني قبل التأكد من سلامتهم في مواجهة الحريق.

تكرار تأكيد عدد من المواثيق والمنظمات الدولية على ضرورة بذل العناية الواجبة لضمان أمان أماكن العمل وسلامة العاملين فيها، وتأكيد حق الأفراد والمجتمعات في الحصول على المعلومة في ظروفٍ مماثلة، جميعها جاءت لضمان حصول الضحايا على سبل انتصاف فعالة في حال تسببت إدارة المواد الخطرة بآثار سلبية، وأثرت على صحة وسلامة الأفراد والعاملين، كما حصل في حادثة انفجار مرفأ بيروت.

لكن -وفي حالة انفجار مرفأ بيروت تحديدًا- لا ينبغي لإنصاف الضحايا أن يقتصر على تعويضهم أو ترميم ما دمرته الكارثة، فهي على هولها والحاجة لتجاوزها لتجنب مزيد من الخسائر على الصعيد الاقتصادي للبلاد، لا يجب أن تنتهي بإخماد النيران وإزالة الركام. ربما يتطلب الأمر انفجارًا آخر، في وجه الفساد هذه المرة.