بتاريخ 4 آب/أغسطس 2020، وقع إنفجار هائل في مرفأ بيروت أودى بحياة أكثر من 190 شخصًا وجرح أكثر من 6 آلاف، وشرّد ما يزيد على 300 ألف شخص، عدا الدمار الهائل الذي خلّفه، وأظهر فشل الدولة وعجز مؤسساتها في التعاطي مع الأزمة، وكشف حجم الفساد الذي ينخر الإدارات الرسمية على أنواعها.
عقب الانفجار مباشرة، علت الأصوات والمطالبات الشعبية بتحقيق دولي مستقل وشفاف لكشف ملابسات هذه الجريمة، إلاّ أن الحكومة آثرت حماية نفسها والطبقة الحاكمة التي تغطيها وأحالت القضية إلى المجلس العدلي بالتزامن مع إعلان حالة الطوارئ الممددة بصورة مخالفة للدستور، ما أوحى أن التحقيقات في هذه الجريمة ستؤدي -كما سابقاتها- إلى تجهيل الفاعل والتنصّل من المسؤوليات.
ينبغي أن يُعطى المحقق الوسائل اللازمة لإجراء فحص جدّي وصارم للوقائع وتوفير الحماية للشهود وتكليف خبراء لإعداد تقارير مفصّلة حول ماهية وكيفية حصول الانفجار، ووضع منهجية واضحة واستراتيجية في العمل لضمان شمولية التحقيق، كما يجب على المحقق استنباط الأدلة الدامغة والموثوقة التي تشكل الأساس القانوني للاتهام والمحاكمة لاحقاً، فضلاً عن الجرأة الضرورية والسرعة اللازمة مع الحفاظ على مسرح الجريمة والحؤول دون العبث فيه.
كل هذه المعايير الأساسية التي يجب أن يتمتع بها التحقيق في جريمة مرفأ بيروت لم نلحظها بعد، فمنذ اتخاذ القرار بإحالة الجريمة إلى المجلس العدلي بدأت المناكفات حول إسم المحقق فاستُبعد الأول بعد تجاذبات غير مفهومة بين وزيرة العدل ومجلس القضاء الأعلى، ومن ثم اعتذر الثاني، إلى أن تم التوافق على تعيين المحقق العدلي الحالي، وبين هذا الاسم وذاك وصلت المناكفات إلى حد التمادي والوقاحة بالمطالبة أن يسمى المحقق من طائفة معينة، كلها أمور أثارت الشكوك حول التحقيق.
بعد استلام المحقق العدلي مهمته بدأت التحليلات والتسريبات السخيفة للتضليل والضغط عليه لتجهيل الفاعل، التي لم يتصد لها عبر وضع الرأي العام بالنتائج الأولية للتحقيقات وإعلان الرواية الرسمية عن كيفية حصول الإنفجار بالرغم من مرور أكثر من ستة أسابيع على وقوعه.
التوقيفات التي حصلت على الرغم من أهميتها إلاّ أنها لا تتمتع بالقدر الكافي من الجرأة والحزم ويجب أن تتوسع أكثر مع توسع التحقيقات لتطال جميع المسؤولين عن الانفجار مهما علا شأنهم ومن كان يعلم بوجود هذه المواد شديدة الانفجار ولم يتخذ التدابير اللازمة لمنع حصول هذه الجريمة، سيما أن المراسلات التي كُشفت عبر الإعلام تثبت أن الوقت كان كافياً لاتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتفادي وقوعه، وبالحد الأدنى كان بالإمكان إخلاء محيط مرفأ بيروت خلال الفترة الزمنية الممتدة بين الانفجار والحريق الذي سبقه وعدم إرسال فرق الإطفاء إلى مكان الحريق دون إعلامهم بحقيقة المواد الموجودة مكان الحريق، الأمر الذي لو حصل لكان وفّر بحده الأدنى الكثير من الخسائر البشرية التي لا تعوّض.
القضاء اللبناني لا تنقصه الكفاءة والاحترافية للتصدي لكشف خيوط هذه الجريمة والوصول إلى الحقيقة الكاملة فالفرصة سانحة الآن ليتحرر من سطوة وسلطة الطبقة الحاكمة ومن خلالها يتحرر اللبنانيون وكل الوطن.
على القضاء اللبناني من الآن وصاعداً أن يقوم بدوره الأساسي في تحقيق العدالة الإجتماعية وسيادة القانون وأن يثبت للشعب اللبناني الذي يُصدر الأحكام باسمه أن دوره الأساس حمايته وليس حماية مصالح الطبقة الحاكمة.
لقد آن الأوان كي تخضع جميع السلطات الدستورية في لبنان لسلطة القانون من خلال السلطة القضائية، فالتحقيقات في جريمة مرفأ بيروت ستبقى راسخة في ذاكرة ووجدان اللبنانيين على أنها الفرصة الأخيرة والامتحان الأخير للقضاء اللبناني، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.