آخر معاقل الاستعمار الاستيطاني: الفصل العنصري في إسرائيل

تتعمق وتتسع الأزمة الحالية في فلسطين/إسرائيل مع تزايد أعداد الضحايا، وتصاعد الدخان من المباني المدمرة ليملأ الأجواء في غزة، وانتشار أعمال الشغب في شوارع العديد من بلدات إسرائيل والضفة الغربية، وقمع المصلين في المسجد الأقصى في نفس الوقت الذي تحمي فيه الشرطةُ الإسرائيلية بحماية مستوطنين متطرفين يهود يرددون شعارات الإبادة الجماعية "الموت للعرب" في مسيرات تحريضية في الأحياء الفلسطينية من القدس.

يكمن وراء اندلاع التوترات بين المضطهِد والمضطهَد عمليات الإجلاء المشرعنة لِسِتّ عائلات فلسطينية مقيمة منذ فترة طويلة في حي الشيخ جراح، والتي، بالنسبة للفلسطينيين، تلخص محنتهم الطويلة من الاضطهاد والنفي فيما بقي من وطنهم. وبينما تستمر هذه الفوضى، ظلت الأصوات خافتة بشكل فاضح في الأمم المتحدة حيث دعا القادة الغربيون بشكل مثير للشفقة إلى الهدوء في كلا الجانبين وكأنهما متساويان. بينما، وعلى النقيض، يؤكدون انحيازهم لـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وكأنها تعرضت للهجوم على حين غفلة.

أليست هذه مجرد حلقة أخرى من العنف تتجسد في صدامٍ مستعصٍ بين سكانٍ أصليين سحقهم دخيل استعماري قوّى شوكته شعور المستوطنين الفريد القائم على أساس استحقاق ديني؟ أم أننا نشهد بداية نهاية قرن من النضال، حيث يقوم الشعب الفلسطيني بالدفاع عن وطنه ضد المشروع الصهيوني الذي تتوالى فصوله من سرقة الأرض، وتدنيس كرامة أهلها، وجعلهم ضحايا غرباء في المكان الذي كان وطنًا لهم لقرون؟ وحده المستقبل سيكشف الستار بالكامل عن هذه الحالة المخيفة من عدم اليقين، ولكن، في غضون ذلك، يمكننا أن نتوقع المزيد من إراقة الدماء والموت والغضب والحزن والظلم والتدخل الجيوسياسي المستمر.

ما أوضحته هذه الأحداث هو أن روح المقاومة لدى الفلسطينيين- رغم الاضطهاد المستمر-باقية كما هي، إذ إنهم يرفضون الخضوع بغض النظر عن شدة المصاعب التي يواجهونها. كما كشفت الأحداث أنّ القيادة الإسرائيلية ومعظم جمهورها لم يعودوا حتى يتظاهرون بقبول بدائل لاستكمال مشروعهم الاستعماري الاستيطاني على الرغم من اعتمادهم على نسخة مسلحة من نظام الفصل العنصري.

 

بالنسبة للإسرائيليين والكثير من الغرب، ما تزال الرواية الأساسية هي عنف منظمة إرهابية )حماس( تتحدى دولة إسرائيل المسالمة بنية هدامة، ما يجعل الرد الإسرائيلي معقولًا باعتباره  وقفًا للصواريخ ولكن – في  الوقت ذاته – كدرس عقابي قاسي لسكان غزة لردع أي هجمات إرهابية مستقبلية.

ويُنظر للصواريخ والطائرات بدون طيار الإسرائيلية على أنها "دفاعية" بينما الصواريخ [التي تطلقها الفصائل الفلسطينية] "إرهابية" على الرغم من أنها نادرًا ما تصيب أهدافًا بشرية إسرائيلية، في الوقت الذي تسبب الأسلحة الإسرائيلية الموت والدمار على نطاق واسع لأكثر من مليوني مدني من سكان غزة الذين وقعوا ضحايا لحصار غير قانوني منذ عام 2007 أدى إلى شلل قطاع فلسطيني فقير ومزدحم يعاني من مستويات بطالة أعلى من 50٪.

في المواجهة الحالية، نجحت سيطرة إسرائيل على الخطاب الدولي في إخراج الإطار الزمني للعنف من سياقه، مما أدى إلى دفع أولئك الذين لا يعرفون سوى القليل عن سبب إطلاق صواريخ حماس للاعتقاد الخاطئ بأن الدمار في غزة كان انتقامًا إسرائيليًا كرد فعل على مئات الصواريخ التي أطلقتها حماس وفصائل غزة. مع إساءة استخدام اللغة التي قد تفاجئ "أورويل"، فإن العالم يقوم بالترويج لإرهاب الدولة الإسرائيلي جنبًا إلى جنب مع رفض حماس للدبلوماسية السلمية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية وهي التي سعت مرارًا وتكرارًا إلى وقف دائم لإطلاق النار والتعايش السلمي.

 

بالنسبة للفلسطينيين والمتضامنين مع نضالهم، سمحت إسرائيل عن قصد بتوجيه سلسلة من الاهانات المؤلمة للسكان المقهورين في القدس الشرقية خلال الفترة المقدسة للاحتفالات الدينية في رمضان، وهو ما زاد الطين بلة خصوصًا بعد عمليات الإخلاء في حي الشيخ جراح، التي كان لها أثرًا حتميًا في استدعاء الفلسطينيين لذكريات وتجارب أيام التطهير العرقي (النكبة). كان هذا بمثابة إعادة تمثيل مجازية لجريمة الطرد الهائلة التي صاحبت ولادة إسرائيل في عام 1948، والتي تفاقمت بسبب هدم عدة مئات من القرى الفلسطينية، مما يشير إلى نية إسرائيل لجعل النفي دائمًا.

على عكس جنوب إفريقيا، التي لم تدّع أبدًا أنها دولة ديمقراطية، شرعنت إسرائيل نفسها بتقديم نفسها على أنها ديمقراطية دستورية. جاء هذا مع ثمن باهظ من الخداع وخداع الذات، مما يستلزم العمل الدؤوب حتى يومنا هذا لجعل الفصل العنصري يعمل لتأمين السيادة اليهودية مع إخفاء القهر الفلسطيني. لعقود من الزمان، نجحت إسرائيل في إخفاء ملامح الفصل العنصري عن العالم بسبب إرث الهولوكوست الذي أعطى مصداقية غير قابلة للنقد للرواية الصهيونية القائمة على ضرورة توفير ملاذ للناجين من أسوأ إبادة جماعية عرفتها البشرية. بالإضافة إلى ذلك، كان الوجود اليهودي يحول الصحراء إلى جنة خضراء بينما يمحو فعليًا مظالم الفلسطينيين، والتي تم استبعادها بشكل أكبر من خلال جهود الهاسبارا [الدبلوماسية العامة في إسرائيل] التي صورت الفلسطيني على أنه متخلف على عكس روعة الحداثة الإسرائيلية، ووضعت صورة كاريكاتورية سياسية لشعبين: يهودي متمسك بالقيم الغربية، وعلى نقيضه فلسطيني محتضن للإرهاب.

حققت التطورات الأخيرة في المجالات الرمزية للسياسة، وهي التي تتحكم في نتائج حروب الشرعية، انتصارات عديدة للنضال الفلسطيني. سمحت المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في الجرائم الإسرائيلية في فلسطين المحتلة منذ عام 2015 على الرغم من المعارضة الشديدة من قيادة الحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة.

علاوة على ذلك، فإن مزاعم الفصل العنصري الإسرائيلي، التي تم إدانتها قبل بضع سنوات عندما خلص تقرير أكاديمي بتكليف من الأمم المتحدة إلى أن مزاعم الفصل العنصري قد تم تأكيدها بشكل قاطع من خلال السياسات والممارسات الإسرائيلية ذات الطابع اللاإنساني المصممة لضمان إيذاء الفلسطينيين وتمكين الهيمنة اليهودية. في الأشهر القليلة الماضية، أصدرت كل من منظمة بتسيلم، وهي منظمة غير حكومية إسرائيلية رائدة في مجال حقوق الإنسان، وهيومن رايتس ووتش، تقارير موثقة توصلت إلى نفس النتيجة المروعة: إسرائيل تدير بالفعل نظام فصل عنصري في كل فلسطين التاريخية، أي الأراضي الفلسطينية المحتلة بالإضافة إلى إسرائيل نفسها. في حين أن هذين التطورين لا يخففان من معاناة الفلسطينيين أو الآثار السلوكية المترتبة على الحرمان الدائم من الحقوق الأساسية، إلا أنهما يمثلان انتصارات رمزية مهمة تقوي معنويات المقاومة الفلسطينية وتقوي أواصر التضامن العالمي. سجّل النضالات ضد الاستعمار منذ عام 1945 يؤكد النتيجة التي تفيد أنّ الجانب الذي يفوز في حرب الشرعية سيسيطر في النهاية على النتيجة السياسية حتى لو كان أضعف عسكريًا ودبلوماسيًا.

 

تؤكد نهاية لعبة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إعادة التقييم هذه لميزان القوى المتغير في النضال الفلسطيني. على الرغم من السيطرة الفعالة والمستقرة على الأغلبية الأفريقية من خلال تطبيق هياكل الفصل العنصري الوحشية، فقد انهار النظام العنصري من الداخل تحت ثقل المقاومة الداخلية والتضامن الدولي. وشملت الضغوط الخارجية حملة المقاطعة التي حظيت بتأييد واسع النطاق ودعم الأمم المتحدة.

 وعلى الرغم من أن إسرائيل ليست جنوب أفريقيا في عدد من الجوانب الرئيسية، إلا أن مزيج المقاومة والتضامن قد تصاعد بشكل كبير في المدة الماضية، فقد فقدت إسرائيل منذ فترة طويلة الحجج القانونية والأخلاقية الرئيسية، وكادت تقر بهذا التفسير من خلال طريقتها الجريئة في تغيير الموضوع باتهامات طائشة بمعاداة السامية، وهي في طريقها لفقدان الحجة السياسية.

إن إحساس إسرائيل بالضعف تجاه سيناريو جنوب أفريقيا ظهر جليًا من خلال هذا الميل المتزايد إلى تصنيف مؤيدي حملة المقاطعة والمنتقدين القاسيين على أنهم "معادين للسامية"، والذي يبدو -في سياق التطور الحالي- أفضل وصف له بأنه "هجوم هلع جيوسياسي".

ربما من المناسب أن نتذكر مقولة غاندي الشهيرة بهذا الصدد: "أولاً، يتجاهلونك ثم يسخرون منك ثم يقاتلونك ثم تفوز أنت".