لا أعظم من الانتماء لفكرة تمنح الفرصة لمعايشة الأمل، ولا أصعب من الكتابة حول فكرة عايشتها منذ لحظات بزوغها الأولى بما فيها من أحلام وآمال ونجاحات وتحديات. نحيي هذا الشهر ذكرى مرور عشرة أعوام على انطلاق عمل المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، والتي تجسّدت في كل عام فيها معانٍ سامية تحققت بوفاء وتفاني المخلصين للفكرة، الذين تعرضوا وما يزالون للمخاطر والتهديدات، وأصروا على الحفاظ على جوهرها وفلسفات عملها كضمان لها من التذويب والتطويع، وتجنب أمراض وإشكالات السلوك التنظيمي التي تنشأ مع الوقت على مستوى الأفراد والهيكل التنظيمي ككل.

انطلق المرصد الأورومتوسطي عام 2011 من مقعد إحدى الجامعات الأوروبية في مرحلة فارقة في تاريخ شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، اجتاحت فيها أحلام وآمال عريضة بالتغيير من أجل حياة حرة. منطقة يعيش عدد كبير من سكانها لاجئين أو تحت الاحتلال أو كليهما، وكثيرًا ما أساء العالم ومؤسساته الدولية فهم من هم وماذا يريدون.

من قراءة متأنية لحاجة تلك المجتمعات وواقع العمل الحقوقي فيها، حدّد المرصد الأورومتوسطي معالم فلسفة عمله الخاصة، التي ترتكز على منح الفئات المهمشة والضحايا الفرصة لأخذ زمام المبادرة في ريادة التغيير، وتمكينهم من نشر وإبراز رواياتهم ومظالمهم دون قيود، إضافة إلى الأخذ بيدهم إلى قنوات المناصرة والتضامن لتحويلهم من مجرد متلقين للدعم إلى مدافعين فاعلين عن حقوقهم وحقوق مجتمعاتهم.  

   ساهم الأورومتوسطي في تعديل 23 تشريعاً يتعلق بحماية حقوق الإنسان في المنطقة، بجانب المشاركة في صياغة وتمرير 34 قراراً للبرلمان الأوروبي والبرلمانات المحلية للدول الأعضاء   

على الجانب الآخر وإدراكًا لتشابك المنطقة مع القارة الأوروبية ولفرص التأثير العالية التي يمكن أن تحققها المؤسسات الأوروبية على وجه الخصوص، اتخذ الأورومتوسطي من جنيف مقرًا رئيسيًّا لأعماله، حيث تقع مقار كبرى المنظمات الحقوقية والإنسانية؛ الأمر الذي يسهّل ويعزز فرص وعمليات التواصل مع منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الأوروبية الفاعلة في القارة، لتحفيزها على اتخاذ خطوات فاعلة وعملية لخدمة ودعم فئاته المستهدفة، وتطوير سياسات حقوق الإنسان في المنطقة.

ولأن الفكرة تتشابه مع التكوين الديمغرافي للمنطقة الذي يرتكز أساسًا على الأجيال الناشئة التي تمتلك طاقات وأدوات حديثة للتأثير والتواصل، كان الشباب العنصر الأساسي في فريق عمل الأورومتوسطي، معززاً بأصحاب الخبرة على المستوى الدولي؛ لضمان تحقيق أوسع قدر من التأثير الفاعل في المنطقة وفي المؤسسات المستهدفة.

ورغم النجاحات الواسعة التي حققها المرصد الأورومتوسطي على مدار السنوات العشر الماضية، والتي استعرضها الزملاء عبر موقع المنظمة، واجه الأورومتوسطي تحديات وعقبات جمة، تمثّل أوّلها -كما في جميع المؤسسات الحقوقية الناشئة- في التموضع بين العدد الكبير من المؤسسات الحقوقية العاملة في المنطقة، وهو الأمر الذي نجح فيه الأورومتوسطي خلال فترة وجيزة بعد انطلاقه، رغم أنه لم يكن أمراً سهلًا على منظمة لا تقف خلفها جهة داعمة، ولم تملك -في ذلك الوقت- موارد بشرية ومالية كافية تمكّنها من مراكمة أعمال يمكن أن تمنحها فرصة التعريف بها والتأثير لدى دوائر صنع القرار والأطراف ذات العلاقة.

نجح الأورومتوسطي خلال فترة وجيزة من نسج شراكات مع العشرات من المنظمات الدولية، وأن يتحول مصدراً للمعلومات الحقوقية لدوائر صنع القرار الأوروبية والآليات الدولية لحقوق الإنسان. ساعده ذلك في أن يساهم منذ انطلاقه في تعديل 23 تشريعاً يتعلق بحماية حقوق الإنسان في المنطقة، بجانب المشاركة في صياغة وتمرير 34 قراراً للبرلمان الأوروبي والبرلمانات المحلية للدول الأعضاء، فيما حضر بشكل فاعل في جميع جلسات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

يُضاف إلى تلك التحديات تزامن انطلاق عمل المرصد الأورومتوسطي مع بيئة شهدت استقطابًا حادًا على مستوى العمل المؤسسي كما المجتمعات، وهو ما تطلّب وعيًا عاليًا ومسؤولية كبيرة في إقرار السياسات والتموضع المؤسسي والعملياتي، والحفاظ الحازم على المهنية والموضوعية والابتعاد عن الاصطفاف والتأطير. كان انحياز الأورومتوسطي حاسمًا للإنسان، بغض النظر عن جنسه ولونه وانتمائه وعقيدته. أستذكر هنا تعرض الأورومتوسطي والعاملين فيه خلال الأعوام الأولى إلى سيل من محاولات الإقصاء والتشكيك من جهات مختلفة، إذ كان يصعب تصديق أن تحقّق مبادرة شبابية مستقلّة حضورًا وتأثيرًا في أكثر من بلد وقضية، الأمر الذي تحقق بفضل توظيف فريقه الشاب لأدوات البحث والمناصرة الحديثة، وفي مقدمتها شبكات التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات، إضافة للتحرر من البيروقراطية الإدارية التي مكنت الأورومتوسطي من التفاعل مع الأحداث والوصول السريع للضحايا وصناع القرار.

وفي بعض الحالات، كان الأورومتوسطي يتعرّض في يوم واحد لمحاولات تشكيك وتشويه من أطراف متعارضة. عام 2014، على سبيل المثال، شنّت مواقع إلكترونية يمنية حملة واسعة ضده واتهمته بالتبعية للمملكة العربية السعودية على خلفية إصداره تقريرًا عن انتهاكات جماعة الحوثي في اليمن، وفي ذات اليوم تلقى الأورومتوسطي سيلًا من الاتهامات بالتبعية لإيران وجماعة الحوثي بعد إصداره بيانًا صحفيًا عن اعتقالات تعسفية داخل المملكة. تكرّر هذا المشهد بشكل كبير في أكثر من ساحة عمل في الأعوام الأولى من عمله، قبل أن يتجاوز هذه الحملات بثبات ورسوخ سياسته المهنية والموضوعية، والحفاظ على حياده واستقلالية عمله.

في الأعوام اللاحقة ومع تفجر أزمة المهاجرين وطالبي اللجوء، انتظم الأورومتوسطي مع شركائه في عمل دؤوب من أجل دفع حكومات دول المنشأ والملجأ لحماية المهاجرين وطالبي اللجوء عبر البحر الأبيض المتوسّط، واتخاذ إجراءات حازمة وفعالة لنشر عمليات البحث والإنقاذ وصون كراماتهم. في هذا الإطار ساهم الأورومتوسطي في تقديم مقترحات للتعديل على عمل الآليات الأوروبية مثل الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل فرونتكس، وتنقل فريقه الميداني بين الجزر الإيطالية واليونانية ومخيمات ومراكز احتجاز المهاجرين وطالبي اللجوء، فيما تعاون مع منظمة الهجرة الدولية وسلطات أوروبية عدة ومكاتب الادعاء العام بغرض التحقيق في عدة حوادث غرق مروعة، بينها حادثتان مروعتان لغرق قوارب طالبي اللجوء في أكتوبر 2013 وسبتمبر 2014.

وعلى الرغم من المزايا التي حققها الاعتماد على فريق شاب يشكل ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان نسبة كبيرة منه، إلا أن الأمر مثّل أيضاً تحدياً كبيراً مع عدم الانخراط المسبق للفريق في بيئات العمل المؤسسي وامتلاكه الخبرة الكافية في العمل الحقوقي، وهو الأمر الذي احتاج جهداً واهتماماً فائقاً عبر توجيه وتدريب هذه الكوادر وصقل قدراتها وتعزيز إيمان الكوادر بإمكاناتها في إدارة العمل المؤسسات إلى جانب دراسة تجارب المؤسسات الأخرى. لم يكن الهدف بقاء تلك الكوادر بالعمل في المنظمة بقدر ما كان ذلك تأهيلها للاستمرار بالعمل في خدمة الإنسان وإيجاد الفرص لذلك. نجح الأمر حد كبير، حيث انخرط أكثر من 80% من الفريق العامل على مدار السنوات العشر في مواقع وظيفية مميزة لدى مؤسسات دولية أخرى أو حصل على فرص مجانية لإكمال دراساته العليا في جامعات دولية عريقة. وتفوق أعضاء الفريق وعملوا في أحلك الظروف وأخطر المناطق وتحت وابل النيران في فلسطين وسوريا وليبيا والعراق واليمن، ولم تثنه محاولات الوصم الإسرائيلية والإعاقة من أنظمة عدة في المنطقة تمارس التغطية على انتهاكاتها وتمتنع عن التعاون مع المؤسسات الحقوقية.

يختم المرصد الأورومتوسطي عقده الأول اليوم وهو أكثر ثباتاً وعزماً على تحقيق رؤيته عبر التوظيف والاستغلال الأمثل للموارد ضمن أقل مستوى إنفاق وفق معايير التكاليف على أساس الأنشطة، متحرراً كما كان وما يزال من قيود التمويل المسيس وعدم الاستقلالية والموضوعية.

أمام الأورومتوسطي عمل دؤوب وفرص كبيرة يسعى لتوظيفها من أجل مواصلة المسيرة وتنفيذ استراتيجية عمله للسنوات القادمة التي رسمها فريقه وإداراته مع فئاته المستهدفة بدعم من مجلس أمنائه، والهادفة لمنح الفئات الهشة والمهمشة في مناطق عمله الفرصة الواسعة للاندماج في الجوانب الحياتية المختلفة، متمتعين بأعلى قدر من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والسياسية، والدفع بالشباب للمشاركة في صناعة القرار وقيادة حماية حقوق المجتمعات بغض النظر عن العرق أو الجنس.

يصعب أن نسرد في هذه المناسبة كل المحطات الفارقة في عمل الأورومتوسطي، إلا أننا نبقى على الدوام مدينون لكل من بذل وقدم وشارك ونصح وأخلص للفكرة. في كثير من المحطات اجتهدنا وأصبنا وأخطأنا والمحصلة اليوم كما نشاهد بناءً متماسكًا أوجد لنفسه مكانًا قريبًا من الضحايا كما الآليات الدولية لصنع القرار.