عندما حكم القضاء الألماني بالسجن مدى الحياة على العقيد السابق في المخابرات السورية "أنور رسلان" في 13 يناير/كانون الثاني، لإدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية متمثلة بتعذيب معتقلين وقتل آخرين في دمشق، شعر الضحايا السوريون أنهم اقتربوا خطوة نحو تحقيق العدالة، وأن الطريق إلى محاسبة مجرمي الحرب السورية ليس مسدودًا.
كما تشجع آخرون من اللاجئين السوريين في البلدان الأوروبية على مطاردة مزيد من المسؤولين والأفراد المتورطين في ارتكاب جرائم مروعة من خلال رفع دعاوى قضائية ضدهم في محاكم محلية، كما هو الحال في ألمانيا والسويد وهولندا وإسبانيا والنمسا، بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي يتيح محاكمة مرتكبي جرائم دولية خطيرة بصرف النظر عن جنسية المتهم أو الضحية ومكان حدوث الجرائم.
رغم جرعة الأمل التي منحتها المحاكم الأوروبية للسوريين لاسترداد جزء من حقهم ومحاسبة المسؤولين عن معاناتهم، ثمة سؤال ظل مطروحًا على الطاولة: "لماذا تسمح أوروبا للوزراء السوريين المدرجين على قائمة العقوبات بالتجول في أنحاء البلاد؟"
استخدم السوريون هذا المبدأ سابقًا، بكل ما تتيحه الإمكانيات -منذ عام 2012 تقريبًا- لإصدار مذكرات توقيف دولية من سلطات قضائية أوروبية ضد عدد من المسؤولين السوريين الضالعين في جرائم ضد الإنسانية. وقد يكون من أبرزها ما حدث في عام 2018 عندما وجهت السلطات القضائية الفرنسية مذكرة توقيف دولية بحق ضباط كبار في الاستخبارات السورية، وهم: رئيس إدارة الاستخبارات الجوية "جميل حسن"، ومدير مكتب الأمن القومي "علي مملوك" و"عبد السلام محمود" المسؤول عن فرع التحقيق في المخابرات الجوية بمطار المزة العسكري.
منذ بداية النزاع في سوريا عام 2011، فرض الاتحاد الأوروبي حزمة عقوبات على الرئيس السوري بشار الأسد وشخصيات رسمية وكيانات اقتصادية ورجال أعمال بارزين، يصل إجمالي عددهم إلى نحو 287 شخصًا، وشملت تلك العقوبات حظر السفر، وتجميد الأصول والأرصدة البنكية، وغيرها من التدابير التي من شأنها معاقبة مجرمي الحرب السوريين والضغط عليهم اقتصاديًا وعزلهم دبلوماسيًا لوقف القتل والقمع الوحشي الذي يمارسونه منذ سنوات ضد المدنيين.
ومع ذلك، استقبلت دول الاتحاد الأوروبي وزراء سوريين يخضعون لعقوبات وسمحت لهم بالسفر إلى أراضيها دون عائق، بذريعة حضور مؤتمرات أممية وحكومية دولية الأمر الذي يثير الشكوك حول جدية المجتمع الدولي في محاسبة حكومة بشار الأسد ومغزى العقوبات المعلنة بصوت عالٍ ما دام أن التدابير التقييدية مرتبطة باستثناءات تسمح لهذه الشخصيات المُعاقبة من دخول دول الاتحاد الأوروبي وفق شرطين: وجود مؤتمر تعقده الأمم المتحدة أو تحت إشرافها، أو حضور جلسات تتعلق بالمساعدات أو الحاجة الإنسانية الملحة.
على سبيل المثال، شارك وزير السياحة "محمد رامي مرتيني" في الدورة الـ24 لمنظمة السياحة العالمية في مدريد، في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021. ولحق ذلك مشاركة وزير الاتصالات والتقانة "إياد الخطيب" في فعاليات المنتدى الـ16 لحوكمة الإنترنت في مدينة كاتوفيتسه ببولندا في ديسمبر/كانون الأول 2021. وفي نفس الشهر شارك وزير التربية والتعليم "دارم الطباع" في المؤتمر الـ41 العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) في باريس.
جاءت هذه الزيارات بموجب قرار مجلس الاتحاد الأوروبي رقم "255" لعام 2013 بشأن الإجراءات التقييدية ضد سوريا وتحديدًا المادة "27" التي تقر بعدم وجود عائق أمام وزراء الحكومة السورية من القدوم إلى أوروبا والمشاركة في جلسات أممية ودولية، ومن خلال هذه النافذة القانونية، حاول بعض هؤلاء الوزراء مساعدة الحكومة السورية على الخروج من الضائقة الاقتصادية والعزلة الدبلوماسية من خلال الترويج للاستثمار في قطاعات اقتصادية مثل السياحة.
سبق هذه التحركات، انتهاكات للعقوبات الأوروبية المفروضة على أركان الحكومة السورية، بين عاميَ 2016 و2018، وأبرزها قيام "علي مملوك" بزيارة سرية إلى برلين، عقب زيارة مماثلة قام بها اللواء "ديب زيتون" رئيس المخابرات العامة في سوريا إلى روما، وتبعها ذهاب "مملوك" إلى إيطاليا بطائرة خاصة وفرتها له السلطات الإيطالية.
تكمن المشكلة الكبرى في الاستثناءات القانونية والانتهاكات المتعلقة بالعقوبات الأوروبية في ثلاث نقاط: الأولى، أنها تعرقل عملية معاقبة الوزراء السوريين بطريقة تلائم مجرمي الحرب، وعوضًا عن ذلك، تمنحهم منبرًا للمشاركة السياسية والحديث أمام الملأ عن مستقبل سوريا بصفتهم ممثلين شرعيين عن الشعب السوري.
أما النقطة الثانية فهي تتناقض بشكل كبير مع الغاية المنشودة من فرض العقوبات، والتي تهدف بالأساس إلى تغيير سلوكيات النظام على كافة المستويات، بمعنى تحقيق الانتقال السياسي ووقف القمع، والإفراج عن المعتقلين، والكشف عن مصير المفقودين، ووضع حد للإفلات من العقاب، لكي يصل الشعب السوري لحقوقه السياسية المشروعة، كما قالت الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد "كاثرين آشتون" في عام 2012.
فهل ترى الدول الأوروبية أن الحكومة السورية اتخذت اتجاهًا مختلفًا عما اتبعته خلال السنوات الماضية لكي تفتح لها ذراعيها؟ وهل تتوقع أن يتوقف بشار الأسد ورجاله عن ارتكاب المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان وهي تعاملهم كشخصيات رفيعة لا يمكن المساس بها؟
النقطة الثالثة تتعلق بالأذى النفسي الذي تحمله هذه الاستثناءات القانونية لمشاعر آلاف الضحايا والناجين الذين دُمرت حياتهم بسبب انتهاكات النظام السوري، وما يزالون يعانون من وطأة هذ الانتهاكات وتبعاتها حتى اليوم، فالاستثناءات القانونية تؤشر على استهانة الدول الأوروبية بمطالب الضحايا بتحقيق العدالة، ما قد يجعلهم يفقدون الثقة بمفاهيم الحق والعدالة في التطبيق القضائي.
إذا لم يكترث المجتمع الدولي لإعادة النظر بآلية العقوبات المتراخية، أو لم يدعمها بتدابير عقابية أكثر فعالية وصرامة، تعزل فيه المجرمين دبلوماسيًا على جميع الأصعدة والمستويات، فإنه لا طائل من هذه السياسات لأنها تساهم بشكل أو بآخر في استمرار العنف والقمع الذي تمارسه الحكومة السورية ضد مواطنيها، وتجبر السوريين على مطاردة خيوط قانونية أخرى، بشكل فردي، وآمال أقل، لاسترداد حقوقهم.
وأخيرًا، يمكن القول إنّ أكثر ما يُخشى من هذه السياسة المتراخية أن تلتقط منها الأنظمة الاستبدادية الأخرى التي تتحدى الأعراف الدولية رسالة غير مباشرة مفادها أن "هناك دومًا مفر من العقاب".