في نهاية شهر أبريل/نيسان الماضي، قدم بشار الأسد "هدية" مسمومة للمجتمع السوري، قبل يومين تقريبًا من حلول عيد الفطر، إذ قضى بمنح عفو عام عن الجرائم الإرهابية االتي ارتكبها سوريون قبل تاريخ 30 أبريل/نيسان 2022 عدا التي أفضت إلى موت إنسان، والمنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب رقم /19/ لعام 2012 وقانون العقوبات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم /148/ لعام 1949 وتعديلاته.
على إثر هذا القرار، احتشد الآلاف من عوائل وأقارب المعتقلين في مناطق مختلفة بسوريا، في انتظار عودة أحبائهم أو استجداء أي خبر أو معلومة عنهم وعن أحوالهم من المعتقلين المفرج عنهم. وفي الغالب، كانت تساؤلات المنتظرين تدور حول مصائر أقاربهم المغيبين في السجون، إما لتأكيد خبر وجودهم في سجن أو معتقل معين، أو لتأكيد إشاعة إعدامهم.
يأتي ذلك في ظل الاستخدام المتفشي والمنهجي للاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في سوريا، دون رقيب على هذه الممارسات وما يصاحبها من تعذيب بكافة الأشكال وفي ظروف دون الإنسانية، ما يؤدي في كثير من الحالات إلى وفاة أو إعدام المغيبين في السجون خارج إطار القانون، الأمر الذي يطال تحديدًا السجناء السياسيين الذين يحتجزون في أفرع المخابرات أو مراكز الاعتقال غير الرسمية.
مر العيد هذا العام كغيره على السوريين وهم تحت وطأة الصدمة المرتبطة بملف المعتقلين والمخفيين قسريًا، فقد اختلطت مشاعر الأمل والخيبة في آن، إلى جانب مشاعر الفوضى وعدم اليقين، خاصةً أن النظام لم يصدر أي إحصائيات أو قوائم رسمية بأسماء الأشخاص الذين أفرج عنهم، وإنما جرت الأمور بطريقة مهينة وعشوائية، حيث خرج عدد من المفرج عنهم وهم فاقدين للذاكرة وآثار الذهول والصدمة تعلوا وجوههم، فيما لم يكن بحوزتهم أوراق ثبوتية أو نقود لركوب المواصلات والمرور عن الحواجز بين المناطق والمدن.
مراسيم عفو صوريّة وعقابية في آن واحد
يعد بشار الأسد من أكثر الرؤساء في العالم العربي إصدارًا لمراسيم العفو العام. ففي المدة بين الأعوام 2011 و2021، أصدر الأسد نحو 20 مرسوم عفو بحق المحكومين في السجون، بحسب مركز روبرت شومان للدراسات العليا، لكن هذه المراسيم لم تكن بمثابة مبادرة سلام وصفح عن سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين، وإنما شملت في غالب الأحيان فئات محددة من المدانين بجنح أو جرائم عادية مثل مهربي المخدرات والقتلة أو المتهربين من التجنيد.
استمرار عمليات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في سوريا يعد دليلًا آخر على زيف العفو الرئاسي ويؤكد على توظيف ممارساته في فتح المجال لارتكاب المزيد من الانتهاكات وترهيب عدد آخر من المواطنين
بمعنى آخر، استثنى النظام الأشخاص الذين مارسوا حقهم في التجمع السلمي وحرية التعبير والرأي عام 2011، أو الذين انتقدوا سياسات النظام وأبدوا رغبة في إصلاحه وتغييره، وقدم العفو للمعتقلين الذين تتوافق تهمهم مع تدابيره التي يسعى من خلالها إلى تحقيق عدة مصالح سياسية وأمنية داخلية وخارجية، وأهمها:
أولًا، أراد النظام تحسين صورته أمام المجتمع الدولي من خلال إظهار جانبًا إنسانيًا، لا سيما أنه أصدر قبل فترة قصيرة قانونًا يقضي بـ "تجريم التعذيب"، ما يمكّنه من فتح مجال أمام تطبيع العلاقات الدبلوماسية معه والخروج من العزلة الدبلوماسية والاقتصادية، خاصة مع انشغال روسيا - حليفه الأقوى - في حربها على أوكرانيا.
ثانيًا، إيهام الدول المستضيفة للاجئين السوريين أن سوريا بلد آمن بالفعل، ولا خوف على المعارضين المهاجرين من العودة إلى منازلهم وأراضيهم، حيث يوجد نظام متسامح، ويستند للقانون في سياساته وأحكامه.
ثالثًا، يأتي إفراج النظام عن بعض المعتقلين بحالة يرثى لها، وبالكاد يمكن لأهاليهم التعرف على وجوههم، كرسالة واضحة من الحكومة عن استعدادها وقدرتها على ارتكاب أعمال وحشية ضد المعارضين أو كل من يفكر في انتقادها، وبالتالي تعزز حاجز الخوف ومبدأ الطاعة لدى السوريين، الأمر الذي سيدفع بالمعارضين والنشطاء لتفضيل ابتلاع ألسنتهم وحقوقهم المدنية على أن تبتلعهم السجون وفروع المخابرات لأجل غير معلوم.
رابعًا، ضخ الأموال في جيوب الأجهزة الأمنية المسؤولة عن مراكز الاعتقال والقضاء، ومن فيها من ضباط أمن ومحامين وقضاة وميليشيات، من خلال ابتزاز أهالي المعتقلين ماليًا مقابل إدراج أسماء أقاربهم في قوائم العفو، حيث تجري عملية دفع الرشوة دون أي ضمانات أو تعهدات مكفولة بخروج المعتقل، ولكن حالة اليأس وعدم اليقين، تُجبر أسر المعتقلين على سلك الطرق التي يرسخها النظام ويعترف بها، حتى وإن كانت التفافية ومجهولة النتائج.
قمع مدى الحياة
صحيح أن نيل بعض المعتقلين العفو الرئاسي لا يخدم إلا مصالح النظام الأمنية والسياسية، ويغذي نهجه القائم على القمع والفساد والتخويف، إلا أن الإجراء بحد ذاته أيضًا لا يمنح المعتقل حريته كما يُصور ظاهريًا، إذ يبقى المعتقل وأهله محكومين بالخوف إلى الأبد من مواجهة النظام أو مقاومته أو حتى من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، لأن الأجهزة الأمنية قادرة على التحكم بهم مدى الحياة بإبقائهم تحت أعين المراقبة أو استدعائهم للاستجواب متى أرادت.
وتجنبًا لحالة الذعر، يلزم المعتقل المنزل ويتجنب المشاركة في الأنشطة المدنية خوفًا من احتجازه مجددًا، وفيما ينجح البعض في الفرار إلى الخارج، يُحرم البعض الآخر من الحق في السفر أو الحرمان التعسفي من الحصول على جواز سفر.
إلى جانب هذه المعطيات، فإن استمرار عمليات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في سوريا يعد دليلًا آخر على زيف تلك الخطوة، ويؤكد على توظيف ممارسات العفو الرئاسي في فتح المجال لارتكاب المزيد من الانتهاكات وترهيب عدد آخر من المواطنين. على سبيل المثال، في عام 2021، أفرج النظام السوري عن 81 شخصًا بموجب مرسوم العفو رقم 13، فيما اعتقل في المقابل قرابة 176 آخرين منذ صدوره.
لذلك، فإنه لا يمكن النظر إلى مراسيم العفو الرئاسي المتتالية بمعزل عن سياسات النظام القمعية التي انتهجها على مر السنوات الماضية، والتي تمنحه فرصة الاسترزاق من ملف المعتقلين والمختفين قسريًا، على الصعيد السياسي والأمني والنفسي والاقتصادي، في الوقت الذي يبقى فيه الضحايا أسرى داخل السجن وخارجه، ويحرمون من الحق في محاسبة الجناة وتحقيق العدالة لهم ولعائلاتهم.